معلومات حول الحبار
تخيّل أنك تسبح في أعماق البحر، لا شيء حولك سوى الظلام وبعض الفقاعات، وفجأة، يمرّ أمامك كائن يشبه المخلوقات الفضائية، له أذرع طويلة تلوّح في الماء، وعينان واسعتان تراقبان كل شيء! ذلك ليس مشهدًا من فيلم خيال علمي... إنه ببساطة الحبار.
نعم، ذلك الكائن العجيب الذي لا يكاد يشبه أي مخلوق نعرفه، يجمع بين الغرابة، والذكاء، والقدرة على التمويه، والسرعة المذهلة! لا مبالغة حين نقول إن الحبار هو أحد ألغاز البحار التي لم تنكشف كل أسرارها بعد.
من هو هذا الحبار الغامض؟
حين يُذكَر الحبار، فاعلم أننا نتحدّث عن مخلوق رخوي عجيب، ينتمي إلى طائفة تُدعى "رأسيات الأرجل"، ولا عجب في هذه التسمية؛ إذ إن أذرعه، بل مجسّاته أيضًا، تنبثق مباشرة من رأسه، وكأنما الرأس والجسد لم يُفصلا يومًا!
ولكن، مهلاً... الغرابة لم تبدأ بعد. جسد الحبار طويل، انسيابيّ، يشبه الطوربيد في انطلاقه وسرعته، وعلى مقدمته تنتشر أذرع كثيرة، تُحيط بها مجسات لزجة، كل واحدة منها مزوّدة بأكواب شفط صغيرة، تلتصق بفريستها بإحكام مُرعب، كما يلتصق الغراء على سطح زجاجيّ أملس.
وإن ظننت أنّه كائن بسيط البنية، فأعد التفكير. فهو، رغم حركاته المدهشة، لا يمتلك هيكلًا عظميًا على الإطلاق! جسده طريّ، شديد الليونة، يمكنه أن ينضغط، أن يلتف، أن ينزلق داخل الشقوق الصخرية الضيقة، وكأنّك لا ترى كائنًا حيًّا، بل تيارًا مائيًا يتشكّل في هيئة مخلوق!
عجيبٌ أمر كأنّ البحر أخفاه عمداً عن أعين البشر، ليظل لغزًا يُحكى عنه في الأساطير، ويُكتب في دفاتر العجب.
ألوان، وأضواء، وتمويه خارق!
ما إن تغوص في أعماق البحر، وتلمح ذاك الكائن العجيب، حتى تبدأ بالتساؤل:
أهو مخلوق حيّ أم عملٌ فنّيّ ساحر؟
الحبار ذاك الساحر الصامت يمتلك موهبة لا تضاهى؛ يستطيع أن يبدّل لونه، يغيّر نسيج جلده، يُعيد تشكيل هيئته في رمشة عين لا مبالغة هنا، بل حقيقة تدهش حتى العلماء أنفسهم!
مرّة تراه رماديًا، شاحبًا كظلّ، وكأنه يحاول أن يذوب في الرمال، ومرة أخرى يتلوّن بالأزرق العميق، وكأنّه قطعة من البحر نفسه، ثم... فجأة! تراه يزهو بألوان فسفورية أخّاذة، كأنّ الكهرباء تمرّ عبر جلده، أو كأن الضوء قرر أن يتقمص جسدًا حيًّا ويتجوّل في المحيط.
ما سر هذا التبدّل؟ الجواب يكمن في خلايا مدهشة تُدعى "الكروماتوفورات" خلايا صغيرة لكنها ساحرة، تتحكّم في الألوان والأنماط، وتستجيب لإشارات عصبية بسرعة لا تُصدّق. ومع ذلك، فالمفاجأة الأكبر لم تأتِ بعد. هل سمعت من قبل عن "التوهّج الحيوي"؟ نعم، بعض أنواع الحبار لا تكتفي بتغيير اللون، بل تنتج ضوءًا خاصًا بها، ينبثق من جسدها بهدوء غامض ضوء حقيقي، ينبض من أعماق كائن حيّ، كأنك تشاهد حلمًا أو تشهد ولادة أسطورة.
تخيل المشهد: حبار يسبح في ظلام البحر، والظلمة تحيط به من كل جانب، ثم... يتوهّج! ليس عن طريق انعكاس الضوء، بل ينبعث منه، كما لو أنّ داخله نجم صغير لا يريد أن يُطفأ. أليس هو أحقّ بلقب أعظم فنان في مملكة الحيوانات؟
ذكاء الحبار أكثر مما تظن
لا تدع مظهره المخادع يخدعك. ذاك الكائن الغريب، بجسده اللزج، وعيونه اللامعة كعدسات التصوير يحمل في طيّاته ذكاءً لا يُستهان به. الحبار ليس مجرد مخلوق بحري ينزلق في الظلام؛ بل عقل متقد، متيقظ، متقلب المزاج أحيانًا، وقادر على ما لا تتوقّعه إطلاقًا.
لقد أجرى العلماء تجارب عديدة على هذا الكائن، تجارب كشفت عن قدرة مذهلة على التعلم، ليس فقط تعلمًا بسيطًا آليًّا، بل تعلم نابع من فهمٍ، ومن قدرة على تحليل المواقف واتخاذ القرار. الحبار، ببساطة، يراقب، يستنتج، ثم يُباغتك بما لم تكن تتخيّله.
في إحدى الدراسات، رُصد حبار يتظاهر بالنوم، تخيّل هذا المشهد الغريب إذ استلقى في هدوء تام، تنفّسه منتظم، جسده ساكن، وكأنّه دخل في غفوة عميقة لكن، وفي اللحظة المناسبة، انقضّ على فريسته بخفّة قاتل محترف، وكأنه كان يخطط منذ البداية!
وهذا ليس كل شيء. ثمة روايات علمية موثّقة تتحدث عن حبارٍ نجح في حفظ مسارات داخل متاهة معقدة، يعرف أين يتجه، وأين يتوقف، وكأنّ ذاكرته تحتفظ بخرائط مصغّرة.
بل وهناك من تعلّم كيف يفتح زجاجات مُحكمة الإغلاق. زجاجات صغيرة تحتوي على طعام وكان يُعيد المحاولة مرارًا حتى يُتقن الفتح، وكأنّ في داخله روح مخترع صغير.
كل هذا يجعلنا نعيد النظر في فكرتنا عن "الذكاء". فمن قال إن الذكاء حكر على من يملك لسانًا أو أطرافًا. ها هو الحبار يثبت العكس، في صمت، وبحركات لا تُنسى.
الحبار ليس كله صغيرًا!
قد يخطر ببالك، للوهلة الأولى، أنّ الحبار مجرد كائن صغير، رخو، لا يتجاوز حجمه حجم راحة اليد وربما لا تُلام على هذا الظن، فالكثير من أنواعه بالفعل ضئيلة، خفيفة، تكاد تُنسى بين الصخور والشعاب المرجانية. لكن، مهلًا... فليس كل ما يطفو صغيرًا، وليس كل ما يختبئ هينًا!
في أعماق لا يطولها ضوء، حيث الصمت البحريّ يتكثّف كثقل الحلم، يعيش مخلوق يدعى "الحبار العملاق" اسمٌ ليس من باب المبالغة، بل وصف دقيق لكائن خرج من أساطير البحر إلى أرض الواقع.
تخيّل مخلوقًا يصل طوله نعم، طوله لا عرضه! إلى أكثر من عشرين مترًا!
عشرون مترًا من الجسد الانسيابي، والأذرع الطويلة المدوّرة بالمجسّات، تنساب في الماء كما تسبح الأفعى في الهواء، في مشهد يجمّد الأنفاس.
ولعلّ أكثر ما يُدهش، بل ما يُرعب أحيانًا، هو تلك العيون! آهٍ من تلك العيون. عينان واسعتان إلى حدّ لا يُصدَّق، يبلغ قطر كل واحدة منهما ما يعادل كرة القدم، بل أكبر أحيانًا.
هي ليست عيونًا للنظر فقط، بل نوافذ مفتوحة على أسرار الأعماق، أجهزة رصد متطوّرة زرعتها الطبيعة لتواجه الظلمة القاتلة في قاع المحيط.
الغريب أنّ هذا الكائن رغم حجمه المخيف قلّما يُرى. يختبئ في ظلمات لا تطأها سفينة، ولا تجرؤ غواصة على الاقتراب منها كثيرًا. لا نعرف عنه إلا القليل، وظهوره المفاجئ على الشواطئ، حين تجرفه الأمواج نحو اليابسة، كان كافيًا ليُشعل فضول العلماء ويؤجّج خيال الكتّاب، والشعراء، وكل من يبحث عن لمسة من الغموض في هذا العالم الذي نظن أنّنا نعرفه.
دفاعات الحبار هروب بدخان!
ما إن يشعر بالخطر يقترب، حتى لا يفكّر بالمواجهة، ولا يلتفت لعضلات المفترسات ولا لأنيابها. الحبار، ذاك الكائن الغامض، يختار الهروب، نعم لكن هروبًا لا يخلو من الخداع، والمكر، وربما شيء من الفن المسرحي!
فبدل أن ينقضّ على خصمه، أو يلوّح بمخالب ضارية وهو قادر على ذلك لو شاء يفتح لنفسه ستارًا من الدخان البحريّ سحابة من الحبر الداكن، كثيفة، سوداء كظلام القاع، ينفثها من جسده في لمح البصر. وفي لحظة، يُغرق المشهد في فوضى بصرية، ويختفي. لا أثر، لا صوت، لا ذيل يُرى!
لكن، هل تظنّ أن الأمر يتوقف عند التعتيم البصري فقط؟لا، ثمّة ما هو أعقد من ذلك...
فهذا الحبر الذي يطلقه الحبار ببراعة ممثل على خشبة مسرحه الخاص ليس مجرّد لون قاتم. بل قد يحتوي على مواد كيميائية ذكية، قادرة على تشويش أنظمة الاستشعار لدى المفترسات؛ فيربك حاسة الشم، ويعطّل الذوق، ويجعل العدوّ يدور حول نفسه، لا يدري أين الفريسة، ولا من أين جاءت!
إنه هروب، نعم... لكن ليس هروب الجبناء، بل انسحاب المحترفين؛ أولئك الذين يعرفون متى يقاتلون، ومتى ينسحبون بخفّة ظلّ، وبلمسة من الغموض.
في النهاية، لا يسعك إلا أن تعترف: الحبار لا يهرب إنه يختفي، كما يختفي السحرة في قصص الطفولة، يترك وراءه أثرًا لا يُنسى، وسؤالًا مفتوحًا: "أين ذهب؟ وكيف فعل ذلك؟".
ما يأكله الحبار ومَن يأكله!
في عالم لا ضوء فيه، حيث السكون يلفّ المكان كستارٍ أبدي، يتحرّك الحبار بخفّة قاتل مدرَّب لا يشرب الشاي، لا يُلقي خطبًا، فقط يتقن فنّ الاصطياد.
بأذرعه الطويلة، التي تنساب في الماء كأنها خيوط حية، وبمجارٍ تنتهي بمئات الأكواب اللاصقة، ينقضّ على فرائسه بلا رحمة. سمكة صغيرة؟ في لحظة تصبح في قبضته. قشريات تمرّ بجانبه؟ مأكولات بحرية جاهزة. بل، وفي لحظات نادرة من جوع أو غضب، قد يلتفت نحو بني جنسه من الحبار الأصغر، فيتحوّل الصيّاد إلى مفترس أقربائه، دون تردّد!
لكن، كما للحبار أنياب خفية، فإن له أعداء يترصّدونه في الظل. الأسماك الكبيرة تراقبه كوجبة لذيذة، والفقمات تُهاجمه بانقضاض مدروس، أمّا الحيتان نعم، حتى الحيتان فبعضها لا يمرّ دون أن يترك أثرًا على حياة هذا الرخويّ العجيب.
وحوت العنبر على وجه الخصوص؟ فذاك له قصة أخرى تمامًا. تخيّل معركة تُخاض في عتمة المحيط السحيق، لا جمهور، لا ضوء، لا تصوير فقط جولات صامتة، بين عملاقَين لا يرحمان. الحبار العملاق، بمجسّاته الغليظة، وعضلاته التي تشقّ الماء، في مواجهة حوت ضخم بعينين غائرتين وفم يتّسع لابتلاع نصف غرفة! من ينتصر؟ لا أحد يعلم. لكن آثار الحرب تظهر على أجساد الحيتان نفسها ندوب، وخدوش، بل وجروح دائرية عميقة تُشير بوضوح إلى مقاومة شرسة، وإلى أن الحبار لا يُؤكل دون قتال عنيف!
الحبار في ثقافات الشعوب
ليس مجرّد مخلوق بحريّ غريب، ولا مجرد وجبة على طبق مزخرف بالبقدونس والليمون. الحبار، في عيون البشر، كان منذ قرون أبعد من كونه كائنًا رخويًّا يسبح في الظل. لقد تحوّل إلى رمز، إلى أسطورة، إلى كابوسٍ يسكن في الأعماق!
في ثقافات شتّى، من شمال أوروبا إلى جزر المحيط، سكن الحبار العملاق المخيّلة الشعبية كوحشٍ أسود الأذرع، يُقال إنّه يلتفّ حول السفن، ويكسر أخشابها كأنها لعب صغيرة، ثم يسحب البحّارة واحدًا تلو الآخر إلى قاع لا عودة منه. تكرّرت هذه الحكايات بقليل من التغيير وكثير من الرعب في الروايات البحرية القديمة، وفي القصص الشفوية التي يتناقلها الصيادون، ثم وجدت طريقها إلى السينما، وألعاب الفيديو، وحتى أفلام الرسوم المتحركة!
لكن هذا الكائن الذي تلبّسه الخوف، لم يسكن فقط أسطورة الرعب، بل زحف أيضًا إلى الطاولات المزينة بالأطباق الشهية. في بلدان عديدة، من الشرق الآسيوي حتى سواحل المتوسط، يُعدّ الحبار طبقًا مفضّلًا، يُقدَّم مقليًا، مقرمشًا كأنّه يُشبه رقاقة البحر، أو يُطهى في الحساء ليُضفي نكهة مالحة تُشبه طعم الأعماق، أو يُشوى على الفحم وتنبعث منه رائحة تفتح شهية العابرين!
طعمه؟ مزيج من البحر والنكهة اللحمية الدقيقة، لذيذ، غنيّ بالبروتين، مغذٍّ على نحو مذهل. لكن قوامه المطاطي؟ آه، ذاك أمرٌ آخر. يحتاج إلى أن تألفه، أن تمضغه برويّة، وكأنك تُصادق البحر لقمةً لقمة.
هل الحبار مهدد؟
رغم أن الحبار يسبح في محيطات شتى، يتسلّل بين الشعاب ويجوب أعماقًا لم تطأها عين، إلا أن وجوده ليس آمنًا كما يبدو. فالعالم من حوله يتغيّر، وتغيراته ليست محايدة ولا هادئة، بل جارفة، مربكة، وربما مميتة.
تغيّر المناخ، ارتفاع درجات الحرارة، تلوّث المياه بالبلاستيك والمعادن، وتلك الشباك الضخمة التي لا تفرّق بين فريسة وصديق. كلّها عوامل تنهش في أعداد هذا الكائن الرائع، قطعةً قطعة، دون ضجيج. بعض أنواع الحبار، تلك الغامضة التي لا نراها إلا نادرًا في صور العلماء أو مشاهد عابرة في أفلام الأعماق، باتت على حافة الاختفاء. لم نكمل حتى فصول حكاياتها، ومع ذلك نخاطر بخسارتها إلى الأبد.
ومع ذلك، وسط هذا القلق المتصاعد، يظهر بصيص من الأمل. فبعض الدراسات العلمية، التي لا تزال في بداياتها، تلمّح إلى قدرة مذهلة لدى الحبار على التكيّف.
وكأنّ هذا المخلوق الذي يتغيّر لونه، ويغيّر جلده، ويختبئ خلف دخان الحبر، يستطيع أيضًا أن يُغيّر مصيره. سريع في التوالد، مرن في التكيّف، كأنه كُتب له أن يبقى.
لكن وهنا التوقّف الإجباري. لا يكفي أن نعتمد على قدرة الحبار وحدها. المرونة لا تعني الخلود، والتكيّف لا يعني النجاة في كل سيناريو. إذا لم نحفظ بيئته، إذا لم نُخفّف ضغط الصيد والتلوّث وتغيّر المناخ، فسنقف يومًا لنرثي مخلوقًا لم نمنحه فرصة كافية ليعيش، لا في البحر ولا في ذاكرتنا.